لا تنتهي معاناة الأسرى الفلسطينين في سجون إسرائيل عند موتهم، بل غالبًا ما تبدأ معاناة جديدة يعيشها الأسير بجثمانه، ويعانيها أهله. ففي نفس اللحظة التي عرف فيها العالم خبر وفاة الأسير الفلسطيني وليد دقة، متأثرًا بإصابته الطويلة بالسرطان، أعلن أهله أن الاحتلال لا يزال يحتفظ جثمانه، وأنه يمنعهم من إقامة سرادق عزاء له في مسقط رأسه. ينحدر وليد من باقة الغربية، ومن مواليد عام 1961.
كان واحدًا من أسرة كبيرة تتكون من 6 إخوة، و3 أخوات. كانت عائلة تمتلك أرضَا خاصة بها، لكن بعد نكبة عام 1948 تحولت العائلة لمجرد مستأجرين لأرضهم من أحد المستوطنين كونه مالكها الرسمي كما تقول أوراق الاحتلال. نشأ وليد وبداخله الثأر الذي يولد به الفلسطيني ضد الاحتلال الذي خسروا بسببه كل شئ، حتى تجارة والده، وفرص عمل لائقة.
عاش خارج السجن الصغير 25 عامًا، لكنها كانت أعوامًا داخل السجن الكبير الذي صنعه الاحتلال من فلسطين كلها. فانضم على إثر ذلك إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1983، والتحق بخلاياها العسكرية. لكنه لاحقًا ساهم بتشكيل جهاز عسكري سري يعمل في الداخل المحتل. هدفه جمع معلومات عن ضباط شاركوا في مجازر صبرا وشاتيلا، واختطاف إسرائيليين لمبادلتهم بأسرى فلسطينين.
ظل نشطًا في هذا الجهاز لمدة عامين، قبل أن تعتقله قوات الاحتلال رفقة إبراهيم الراعي، ورشدي أبو مخ، وإبراهيم بيادسة، بتهمة قتل موشي تمام. وظل معتقلًا حتى تُوفي.
تُوفي وليد وهو يحلم بالحرية واحتضان ابنته. فقد برز خبر وفاته بعد يوم واحد فقط من مطالبة منظمة العفو الدولية السلطات الإسرائيلية بالإفراج عنه نظرًا لظروفه الصحية المتدهورة. فدّقة كان مصابًا بسرطان في نخاع العظم، وهو من الحالات الطبية النادرة في العالم، والتي يصعب علاجها في ظل ظروف احتجاز وقمع، وتحتاج إلى اهتمام طبي فائق.
لكن لا يمكن أن يكون المرض وحده هو الموجود في قفص الاتهام بخصوص سلبه حياة الرجل. فالسلطات التي احتجزته يجب أن تتواجد في دائرة الاتهام أيضًا. خصوصًا أن الرجل تعرض بعد هجمات السابع من أكتوبر عام 2023، للتعذيب والإهانات. كما حُرم في تلك الفترة من الزيارات، ومن رؤية عائلته. كما نُقل إلى المستشفى مرتين بسبب تدهور حالته الصحية.
وهو في الغالب نقل صوري فحسب، فسياسة الإهمال الطبي المتعمد باتت واضحة في تعامل الجانب الإسرائيلي مع الفلسطينيين. وهو ما تدركه حركة حماس التي حمّلت في بيانها وزير الأمن القومي مسئولية وفاة الدقّة. خاصةً وأن دقة قد قدم طلبًا للإفراج المبكر بسبب ظروفه الصحية. وقد قدّر مسئول الصحة في السجون الإسرائيلية أن الرجل أيامه معدودة، وهناك خطر حقيقي على حياته. لكن السلطات الإسرائيلية رفضت الطلب، وقالت إن مرضه لا يتناسب مع معايير الإفراج المبكر.
لكن كل العذاب الذي تعرض له دقة لم يُشبع الإدارة الراغبة في الانتقام فحسب. وعلّق وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، على وفاة دقّة أنه يأسف لأن وليد دقة مات بشكل طبيعي، ولم يمت بأيدي القوات الإسرائيلية. الوزير الإسرائيلي يلّمح إلى أن الحكم الذي صدر أولًا على دقّة كان الحكم بالإعدام، لكنه خُفف إلى الحكم الذي كان يقضيه.
دقّة كان يقضي حكمًا طويلًا بالسجن، لمدة 38 عامًا، بسبب اتهامه بالمشاركة في قتل جندي إسرائيلي، مع رفاق مسلحين. الجندي المقصود هو موشيه تمام، المقتول عام 1984. لكن حتى بالحسابات الإسرائيلية التي تستنزف الأعمار في سجونها، كان من المفترض أن تنتهي محكومية وليد دقة في مارس عام 2023. لكن في عام 2018 أصدرت ضده محكمة عسكرية إسرائيلية حكمًا بالسجن لمدة عاميين إضافيين بتهمة محاولة تهريب هواتف محمولة لأسرى آخرين.
لم تكن سنوات السجن هدرًا من حياة وليد دقة. فالمُقاوم يستطيع أن يحول كل ما حوله لسلاح. فقد قضى دقة سنوات السجن في محاولة خلق طرق جديدة للمقاومة. منها أنه أُعجب بزوجته الإعلامية سناء سلامة أثناء عملها عن ملف للمعتقلين، وتزوجها وهو داخل المعتقل. وبعد صراع طويل وافق الاحتلال على منحهم زفافًا لمدة 3 ساعات داخل السجن. ليكون بذلك هذا هو الزفاف الأول، والوحيد حتى الآن، في تاريخ الأسرى.
كان الزواج بداية لصراع مختلف. فقد ناضل وليد دقة مع السلطات الإسرائيلية لمدة 12 عامًا ليحصل على قرار يسمح له باللقاء مع زوجته كي يتمكنا من الإنجاب. لكن تعنّتت السلطات الإسرائيلية فلم يكن أمام دقة إلا تهريب نطفة ليستقبلها رحم سناء فينتج عنها الطفلة الجميلة ميلاد. كما اختار لها أبوها اسمها في رسالة هرّبها من السجن عام 2011، قبل ميلادها بـ 9 سنوات، فقال أن طفله سيكون اسمه ميلاد، ليعرف العالم أن مولد الطفل هو لحظة ميلاد ولد دقة الحقيقية.
خاصةً بعد أن يأس وليد من الخروج في أي صفقة تبادل ممكنة. لأن اعتقاله قد جرى قبل اتفاقية أوسلو عام 1993. ورفضت إسرائيل الإفراج عنه في أي صفقة تبادل كانت تضع اسمه ضمن مطالبها. ولم يتغير في سنوات اعتقاله سوى السجن الذي يسكنه. فقد تنقل بين سجون بئر السبع وشطة وعسقلان والجلمة وهداريم وجلبوع. ومع كل ورقة تصدر له في الخارج كانت تجري معاقبته بالتعذيب والحبس الإنفرادي والنقل لسجن أشد حراسة.
لتنضم بذلك ميلاد إلى سفراء الحرية، اللقب الذي يطلقه الفلسطينيون على الأطفال الناتجين من النطف المهربة. لكن لم تكن تلك سوى بداية لفصل جديد من الصراع والنضال في حياة وليد دقة. فلم تمنح المحاكم الإسرائيلية أي أوراق ثبوتية للطفلة. ما يعني أنه لن يُسمح له برؤيتها، أو يُسمح لها بزيارته ضمن أفراد عائلته، فالاحتلال لا يعترف بنسبها له. ورغم أنه عند ميلادها كان وليد قد بلغ 57 عامًا، وسناء قد قاربت الخمسين، إلا أنهما استمرا في محاولة الحصول على أوراق ثبوتية لابنتهما، حتى حصلا عليها بعد إجراء اختبار الحمض الوراثي بعدما بلغت ميلاد عامًا ونصف.
أطلق دقة على نفسه رجل الكهف، لأنه قضى سنوات طويلة في السجن، تغيّر معها العالم عما كان يعرفه حين دخل السجن. إلا أنه استطاع أن يواكب الزمن، وأن يصارعه. واستخدم القلم سلاحًا.
فأكمل دراسته من داخل محبسه، وحصل على درجة الماجستير. كانت المرحلة الأولى من تعليمه في مدارس قريته التي ولد فيها. وأتقن اللغة العبرية، اللغة التي يصفها بأنها لغة زوجة الأب التي تصارع لغة الأم، العربية. بعد إتقانه للغة زوجة الأب عمل مترجمًا متطوعًا للأسرى داخل السجن. ثم التحق بجامعة تل آبيب المفتوحة ليُكمل دراسته. كان مكلفةً على عائلته لكن العائلة لم تتخل عنه ماديًا ومعنويًا. أمّا الموافقات الأمنية فكانت صراعًا متواصلًا يخوضه وليد مع سلطات الاحتلال.
فكان دخول الكتب الدراسية، وكل خطوة متعلقة بمساره التعليمي، تحتاج إلى موافقة من المحكمة العليا. والموافقة تستدعي طلبات متعددة ومكتوبة بصياغة قانونية ومشفوعة بأسباب ومبررات رسمية. وظل حريصًا على التحصيل الأكاديمي حتى بعد أن مُنع من إكمال مساره في الحصول على الدكتوراه في الفلسفة.
كما احتل مكانة كبيرة بين عالم المُفكرين والمُنظرين. فكتب من محبسه العديد من المؤلفات برز منها كتاب صهر الوعي. في صهر الوعي تحدث وليد عن نضاله الذي بدأه بعد الأسر، وعن الحياة في سجن جلبوع شديد الحراسة. يندرج كتاب صهر الوعي تحت بند أدب السجون، لكنه يتجاوز ذلك التصنيف الضيق ليكون أدبًا مقاومًا رغم ذلك. فيوضح دقة في الكتاب أن آليات التعذيب الإسرائيلية هدفها صهر وعى الأسرى، وكسر إرادتهم، وتعذيبهم جسدًا وروحًا وعقلًا وفكرًا.
وكتب كذلك كتاب الزمن الموازي. كما كتب يوميات المقاومة في جنين. في ذلك الكتاب قدّم وليد توثيقًا كاملًا للمقاومة الفلسطينيية، وعرض فيه آراءه في العمل المسلح، وفي الاحتلال، وفيما تعرضت له فلسطين على مدار السنوات التي عاشها وليد دقة.
كما ألف رواية بعنوان حكاية سر الزيت، وحصدت تلك الرواية عددًا من الجوائز المحلية والعربية. ولتلك الرواية جزء ثان بعنوان حكاية سر السيف. ثم أضاف لهما جزءً ثالثًا بعنوان حكاية سر الطيف. والجائزة الكبرى التي حصدها دقة من كتاباته كلها هى الصمود، فيقول أنه لا يكتب إلا لأنه يحتاج لما يعينه على الصمود داخل الأسر. والكتابة كما يسميها هى النفق الذي يحفره تحت أسوار السجن.
لم تكن الكتابة وحدها سبيله للتحليق خارج السجن. فقد صار عضوًا في حزب التجمع الوطني الديموقراطي عقب تأسيسه عام 1995. وقد اُنتخب غيابيًا ليكون عضوًا فيه. لكن حرمه الاحتلال من أي تواجد رمزي خارج السجن. فالقسوة كانت رفيقة وليد منذ لحظة التحقيق العسكري معه منذ الاعتقال، فعانى من التجويع والحرمان من النوم والتعذيب الجسدي والنفسي.
ثم مُنع من حضور جنازة والده، بعد 12 عامًا من اعتقاله، واكتفى الاحتلال بعرض فيديو للجنازة أمامه فحسب. ومُنعت والدته من زيارته حتى عانت من ألزهايمر عام 2013. ولم يعانق أحدًا من عائلته إلا أخاه أسعد، الذي اُعتقل هو الآخر لثلاث سنوات، فترافق الأخوان في الزنزانة.
لم يندم وليد دقة على ما فعله، ولم يبدو في أي من كتاباته شك في جدوى المقاومة. بل تُعتبر كلماته نبوءة يومية أن المقاومة مستمرة مادام الاحتلال مستمرًا، ومتماديًا في ارتكاب فظائعه. فقد كانت مجزرة صبرا وشاتيلا، تحديدًا، ومجازر الاحتلال في لبنان عمومًا هى الدافع الرئيسي وراء انخراط وليد دقة في العمل المقاوم. كما أوضح هو ذلك بنفسه في رسالته بمناسبة مرور عشرين عامًا على أسره.
أنا لست مناضلًا أو سياسيًا مع سبق الإصرار والترصد. بل أنا ببساطة كنت من الممكن أن أكمل حياتي كدّهان أو عامل محطة وقود كما فعلت حتى لحظة اعتقالي. وكان من الممكن أن أتزوج زواجًا مبكرًا من إحدى قريباتي كما يفعل الكثيرون، وأن تنجب لي سبعة أو عشرة أطفال، وأن أشتري سيارة شحن وأن أفهم بتجارة السيارات وأسعار العملات الصعبة. كل هذا كان ممكنًا، إلى أن شاهدت ما شاهدت من فظائع حرب لبنان وما أعقبها من مذابح صبرا وشاتيلا، خلقت في نفسي ذهولاً وصدمة.
فوليد دقّة يوجه نفس الرسالة التي وجهها من بعده الشاعر تميم البرغوثي للاحتلال الإسرائيلي:
يا قائد النفر الغزاة إلى الجديلة
أو إلى العين الكحيلة
من سنين
أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً
إنما أدعوك صدقاً، أن تخاف من الصغار الميتين.
فالاحتلال يظن أن آلة القتل الوحشي التي مارسها سابقًا، ويمارسها حاليًا بطاقتها القصوى في أهل غزة، هى وسيلته للخلاص من الثائر الفلسطيني، فدّقة وتميم وكل يتيم فلسطيني يخبرونه أنه مخطيء، وأنه عبثًا يحاول، فلا فناء لثائر.